غيرةُ اللُّغات

أحب الكتب التي تكتب عن اللغة، عن الغوص في عالم اللغات والتنقيب عن لغة تعبر عنا، ولكن هذا ما لم يحدث لكون الشخص متعدد اللغات ستكون فترات من حياته مرتبطة باللغات التي اكتسبها.
ولكن هل اللغة تكتسب بحكم معين أم نضطر لأتخاذها؟
ماذا عن الصعوبات التي تواجه من ينتقلون قسرًا لبلدان أخرى، إلى أي حد يبقون متمسكين بلغاتهم الأمومية؟
وهل هي ذات الصعوبات التي تواجه من يختار الهجرة؟
هل هناك لغات حُب وموت؟ وهل اللغات تعرف الخلود؟
ماذا عن الذين لا يعرفون سوى لغتهم الأم هل عليهم أن ينقبون بسحر لغتهم؟
هذا الكتاب عبارة عن مقالات تتناول موضوعات عدة، جميعها تدور حول اللغة بتعريف مختلف في كل مرة أعمق من أن تكون اللغة وسيلة تواصل أو مجرد كلمات تعبر عما بداخلنا.

تساهم اللغة في تشكيل ذكرياتنا، أنها حاضرة في بناء الصور من حولنا في رؤوسنا، لا يمكننا أن نفكر في طفولتنا من دون ربطها بالأصوات التي تصدر باللغة التي كنا نتحدث فيها بذاك الزمن.

وقد يحدث اغتراب في مواجهة الزمن. الزمن الذي لا رجعة إليه سوى بالتخيل والتفكير.
نعيد تشكيل الحياة التي عشناها بأختراع وجودنا أو اعادة اختراعه ” الذاكرة شكل من أشكال الخيال. هي موجودة لأن الماضي لا يستمر. لذا لابد في كل مرو من إعادة اختراعه،”
يمكننا أن نعود لذات الأماكن ولكن لا يمكننا أن نعود لذات الزمن سوى بالذكريات التي هي عبارة عن أصوات وكلمات ووجوه ومابقيّ شوائبه في الذاكرة. ” يمكننا الانتقال من نقطة إلى أخرى في فضاء المكان، ولكن لا يمكننا أن نفعل الشيء نفسه في نظام الزمن”

وهذا الأمر لا ينطبق على اللغات الأجنبية فقط وأنما بذات اللغة التي نتحدث فيها هناك لغات تسيطر علينا أكثر من الأخرى. وتأثر اللغة على مشاعرنا وسرد ذكرياتنا، مثلًا مجرى حياتنا اليومية ينقضي باللغة العامية سيكون وقعه مختلفًا عندما نسرده بالفصحى. ” ربما كانت الذكريات لا تتحدث إلا اللغة التي وقعت فيها أحداثها.”

هل ننجو من عذاباتنا أن تعلمنا لغة أخرى؟
هل تراودنا الأحلام بها أم يلاحقنا شبح أحلام لغتنا الأم؟ أتوقع جواب كلا السؤال في الفيلم الكوري past lives عندما غادرت البطلة دولتها بعمر ١٢ سنة وسافرت إلى نيويورك رغم أنها كبرت في دولة أجنبية، تحدثت بلغتهم، عملت وحتى تزوجت ولكن أحلامها بقيت بلغتها الأم. ” أننا نعيش داخل اللغة أكثر مما نعيش داخل مساحة جغرافية معينة”

لطالما فكرت أن تكون لي لغة سرية مع أختي، أن نتحدث بحرية دون أن يعرف أحد عما نقوله، اللغة فضاء يمنحنا الحرية بالتعبير، نتجاوز بها الحدود التي تقيدنا بلغتنا، يناقش الكاتب هذا الأمر في مقال لغة الحُب، عندما يكون للحُب لغة خاصة، لغة أكثر حميمية وأكثر بهجة لروحك وأكثر أشراقًا لمشاعرك، أنها اللغة التي تجعلنا ندخل حدائق تراكيبها القواعدية، ونقطف معانيها المخبأة بحذرٍ من أن يتم اكتشافنا ” يمكن القول إن الحب نفسه هو الذي يختار لغته “

ومهما عرفنا من اللغة يبقى عمق لا يمكن الوصول إليه، حيث في كل مرة نكتشف كلمات جديدة وهذا الكلمات تحمل معانٍ مختلفة وهنا عندما نجرب استخدام او عمل تحديث لكلماتنا المعتادة في القول، نشعر وكأننا غرباء على لغتنا.

وبالطبع عندما يفرض علينا شيئًا ما، نعتبره تهديدًا لنا، وعدو لا بد الحماية منه حتى لو كان ذلك العدو هو اللغة، بينما عندما نختار التغيير بملأ أرادتنا فقد نكون حينها محلقين في تلك اللغة.
وحتى في الكتابة فقوة القصص تختلف من لغة لأخرى، يكون عقلنا قد انغمس بلغةِ فكرة معينة لأستخراج المعاني المناسبة لقوة سردها.

ومؤلم أن تشعر بداخلك غيرة اللغات التي تتكلم بها، كيف لك أن تتعامل مع تلك الغيرة هل تختار اللغة التي تثقل الذاكرة بها أم تتخلى عنها؟.
وما يؤلم أكثر أن تعيش الغربة في لغتك، فاللغة معرضة للتحديثات والتجديد ومن يغادر لغته وبعد مرور زمن يعود لا يجدها ذات اللغة، فالزمن يأخذ حصته منها.

تبقى اللغة مرة تظهر وكأنها واضحة لابد أن تقترب منها ومرة أخرى تجدها مليئة بالفخاخ. رغم أنها لغة عبارة عن وسيلة تواصل ولكنها تعني أكثر من ذلك. وقد تختلف لغات حديثنا، ونفتقر للتواصل ولكن العيون وحدها تعيدنا لذات الذكريات، العيون لا تفقد لغة ذاكرتها.
ماذا عن ولادة اللغة، كم لغة تولد الآن وهل هناك لغات وصلت لشيخوختها وتنتظر الموت؟ وما اللغة الخالدة ؟
” كيف يمكن للمرء منا أن يضيع داخل اللغة”
اللغة هي العدو والصديق، الحُب والموت وهي ذاتها تجعلنا نقع في غياهبها وهي ذاتها تنتشلنا من ضياعنا.

غصون الشذر | ١٢ كانون الثاني ٢٠٢٤

أضف تعليق